نقاش علمي عن إنفلونزا الطيور دار مؤخراً بيني و بين أحد الزملاء في أروقة أحد الجامعات الأمريكية، و لا يحلو الكلام عن فيروس الإنفلونزا إلا بذكر مصر المحروسة التي تُسَجِل للأسف واحداً من أعلى معدلات الإصابة على مستوى العالم سنوياً. تطرق بنا الحديث إلى إحصائيات عام 2015، و الذي شهد مع بدايته نشاطاً ملحوظاً لهذا الفيروس في مصر، غير مفهوم أبعاده العلمية على وجه التحديد حتى الآن. سألني عن عدد الوفيات، فأجبته 10 حالات خلال شهر واحد فقط تقريباً. سألني و هل هذا برقم كبير يدعو إلى القلق؟ بالطبع الرقم نفسه لا يعني الكثير، و لا بد أن يُنظَر له في سياق نسبي للأرقام المُسَجلة خلال الأعوام السابقة و بالمقارنة مع بقية دول العالم. فخرجت إجابتي كالآتي: إذا أخذنا في الإعتبار 9 حالات وفاة فقط في عام 2014 بأكمله، نعم هو رقم مُقلق، و لكن إذا إنتبهنا إلى أن هناك ما يزيد عن 22 مواطن مصري وافتهم المنية بالأمس فقط إثر حادث أليم على خلفية مباراة لكرة القدم، و الإعتداء الإرهابي الذي راح ضحيته ما لا يقل عن 20 شهيد من جنود الجيش المصري في سيناء منذ
!أيام، فهو بالطبع رقم عادي لم تمضي سوى ساعات قليلة بعد إنتهاء هذا النقاش لأجد نفسي أمام مشاهد مفزعة لقصف مدينة دوما السورية و الذي خلف وراؤه ما يزيد عن 200 قتيل، و مقتل 3 شباب في عمر الزهور في ولاية نورث كارولينا الأمريكية. توقفت قليلاً عند هذه الأرقام؛ ماذا لو وضعنا بجانب كل رقم القصة الإنسانية المختبئة خلفه؟ ماذا لو إستبدلنا أعداد الضحايا بلقطات من أحلامهم و طموحاتهم التي إنطفأت فجأة، بنجاحاتهم و إنجازاتهم التي إنتهت، بمعاناة ذويهم التي بدأت؟ هل لا تزال الخسائر البشرية مجرد أرقام في جداول بيانات؟ دار بخاطري سؤال مجازي، أعترف قبل الخوض فيه أنه قد يكون من المستحيل الإجابة عليه بطريقة علمية، و لكنه يدعونا إلى قليل من التأمل: من يمثل خطراً أكبر على البشرية، الفيروسات أم البشر أنفسهم؟ غالباً ما يلعب الفيروس دور الشرير في الموروث الإعلامي الشعبي، أو هكذا يتم تصويره، فستجد كلمة فيروس في أغلب الأحيان مقرونة بصفات عنيفة تشير إلى القتل و الفتك و الدموية. ظهرت هذه المفردات بشكل واضح أثناء التغطية الإعلامية لوباء الإيبولا الذي ظهر في غرب إفريقيا العام الماضي. كم كان عدد ضحايا فيروس الإيبولا، الذي لقبه الإعلام المصري بآكل لحوم البشر و شبهه الإعلام الغربي بداعش، منذ ظهوره في أواخر السبعينات؟ ما يقرب من 10,000 حالة وفاة. كم كان عدد الضحايا التي خلفتها الحروب في أفغانستان و العراق منذ عام 2001؟ ما يزيد عن 350,000 قتيل، منهم 220,000 على الأقل من المدنيين. من تسبب في خسائر أكبر للبشرية: إيبولا أم بشر مثلي و مثلك؟ حينما تقرأ الكثير عن أشخاص أو أماكن أو حتى أشياء معينة، لا إرادياً يتولد لديك شعور بالأُلفة تجاههم. هذا تحديداً ما حدث بيني و بين الفيروسات، فبدأت أرسمهم في مخيلتي على هيئة أفراد كل منهم له شخصيته المستقلة، فمنهم الطيب كالفيروس المسبب لنزلات البرد، و الشرس كفيروس الإنفلونزا، و القبيح كفيروس السُعار الذي يتسبب في مقتل تقريباً 100٪ من ضحاياه. و على الرغم من هذا التنوع الهائل الذي أبدعه الخالق سبحانه و تعالى في هذه الفيروسات المتناهية الصغر، إلا أنها إكتسبت سمعة سيئة بأنها وُجِدت على الأرض لتقتل البشر. هل هذه الإنطباعات صحيحة علمياً؟ لا و الله أبداً، هذه "إشاعات مغرضة" روجتها وسائل الإعلام و أفلام هوليود، بل سأذهب بك لأبعد من ذلك و أقول لك أن هناك نظريات علمية تفترض إستحالة الحياة على كوكب الأرض بدون وجود الفيروسات البحرية التي لا تصيب الإنسان و تلعب دوراً هاما في دورة .حياة الكربون و عملية التمثيل الضوئي حتى الفيروسات التي تسبب لك المرض، في أغلب الأحيان تذهب إليها أنت بكامل إرادتك و لا تأتي هي لك، لإنها ببساطة لا تملك نظام يُمَكنها من الحركة. أثبتت الدراسات العلمية أن ما يزيد عن 60٪ من الأمراض المعدية التي أصابت الإنسان حديثاً كانت بسبب ميكروبات إنتقلت إليه من الحيوانات، و على الأخص البرية منها. أثبتت أيضاً الدراسات العلمية أن إتساع دائرة الإحتياجات الإنسانية من المأكل و المأوى تسبب في تدمير أكثر من 50٪ من تنوع الحياة البرية على مدار الأربعين سنة الماضية. تعيش أنواع كثيرة من الفيروسات حياة برية، بصورة مسالمة في أغلب الأحيان، إلى أن يأتي الإنسان و يقتحم هذه الخلوة. نشاطات إنسانية عديدة، كالصيد و قطع الأشجار و مد شبكات الطرق، تُحْدِث خلل في التوازن الطبيعي، و تزيل السلاسل عن هذه الفيروسات البرية، فتنطلق لتصيب الإنسان. و لكن مع إنتقالها إلى هذا العائل الجديد الذي لم تألفه من قبل و لا يوجد بينها و بينه أي معاهدات سلام، تشعر هذه الفيروسات بنوع من الغربة بعيداً عن موطنها الأصلي فتكشر عن أنيابها و تسبب أمراض. الأمثلة على ذلك كثيرة، فسنجد أن العائل الطبيعي لفيروس الإيبولا هو خفاش الفاكهة، و لكن ولع بعض البشر بطبق شوربة الخفافيش، مَكَّنَه من الإنتقال للإنسان. فيروسات الإنفلونزا تعيش في الطبيعة بصورة مسالمة مع الطيور البرية المهاجرة في مناطق غير مأهولة بالسكان، و تنتقل تحت بعض الظروف إلى الطيور المستأنسة التي تمثل مصدر غذاء رئيسي للإنسان، و مع إزدياد الطلب على "قطع دجاج كنتاكي بالخلطة السرية"، تتسع دائرة تربية الدواجن و بالتالي فرصة إنتقال هذه الفيروسات للإنسان. فيروس الإيدز، الذي أصاب ما يزيد عن 70 مليون إنسان منذ إكتشافه في أوائل .الثمانينات، هو في الأصل فيروس يصيب الشمبانزي، الذي يتم إصطياده بهدف الأكل في بعض دول إفريقيا لا أود بعد هذا الغزل الصريح الذي كتبته في حب الفيروسات (في يوم الفالنتاين) أن أترك إنطباع خاطئ لدى القارئ أنها لا تمثل خطر على الإنسان، فلقد شهدت البشرية العديد من الأوبئة الفيروسية العالمية التي خلفت ورائها الملايين من الضحايا. على سبيل المثال، تسبب وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي إجتاح أجزاء كبيرة من العالم سنة 1918 في مقتل ما يقرب من 50 مليون شخص، و لكن حينما ندرك أن هذا تقريباً هو نفس عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية، لا بد و أن نتوقف قليلاً و نفكر فيما تسببنا فيه نحن البشر من خسائر بعيداً عن أي أوبئة مرضية أو كوارث طبيعية. و لأن الفيروسات تسبب العديد من المشاكل المرضية، حاول البشر أن يجدوا بعض الأدوات التي تقيهم مخاطرها، فكان إكتشاف اللقاحات واحداً من أهم الإنجازات الإنسانية التي ساهمت في تخفيض معدلات العدوى بنِسَب هائلة أدت إلى إبادة تامة لبعض الأمراض الفيروسية الخطيرة كالجدري، أو شبه تامة كشلل الأطفال. ثم جاء بعض البشر، بعد كل هذا التقدم العلمي، و رفضوا تطعيم أطفالهم لأسباب غير علمية؛ السلوك الذي أدى إلى تفشي حالات الإصابة بفيروس الحصبة في بعض الولايات الأمريكية. و كأن الخسائر في الأرواح التي تسببت فيها الحرب الأهلية في سوريا لم تكن كافية، فجاءت بعض الأطراف المتناحرة و دمرت عن عمد ما يزيد عن 50٪ من المنشأت الصحية السورية، مما أدى إلى نقص شديد في إمدادات .اللقاحات، نتج عنه تفشي لأمراض فيروسية كانت قد إختفت بالفعل كشلل الأطفال و الحصبة لم أتعجب حينما قرأت الدراسة المهمة التي نشرها بيل جيتس على مدونته، و التي أظهرت أن الإنسان هو ثاني أكبر قاتل للجنس البشري بعد البعوض الذي يحمل العديد من المسببات المرضية. لا أعلم أين يقع ترتيب الفيروسات على هذه القائمة من الكائنات المسببة للخسائر في الأرواح البشرية، و لكن ما أعلمه جيداً أنها لا تعذب و لا تذبح و لا تحرق بشر أحياء في أقفاص. الفيروسات "الذكية" لا تقتل عائلها الذي يمدها بمكونات الحياة، و حينما تقتل يكون القتل ضرر ثانوي غير مصحوب بأي رغبة واعية في الإيذاء أو التدمير؛ مستوى من التحضر لم يرقى له بعض البشر !حتى الآن
8 Comments
Adham
2/15/2015 01:32:05 am
This is great!!!
Reply
Randa
2/15/2015 01:49:24 am
Congrats sweetheart!! It has been a while haven't read such a beautiful piece of writing. Great article masha Allah!!
Reply
Ali
2/15/2015 02:28:30 am
good job, well keep it going
Reply
Khaled
2/15/2015 02:42:29 am
Great job my friend!
Reply
Ahmed A. Azim
2/15/2015 01:20:50 pm
Very true... sadly.
Reply
Walid Azab
2/16/2015 05:26:34 pm
Great job Islam.
Reply
Islam Saadeldin
2/18/2015 06:16:30 am
القيروسات تعمل "كتفا بكتف" كي تتعايش ؛ أما الإنسان يعمل "فتكا بفتك" كي لا يعيش أحد سواه!!
Reply
Mustafa
3/26/2016 05:55:33 am
تحياتي دكتور، مقال مقال مميز من شخص مميز، فقط دكتور وللمصداقية ليست بعض الاطراف المتناحرة هي من دمرت البنية التحتية الصحية في سوريا بل ان النظام السوري هو المسؤول عن معظم هذا التدمير، والحقائق موجودة لمن يريد معرفتها، ، دمت بخير ودمت متألقا
Reply
Leave a Reply. |
AuthorIslam Hussein Archives
September 2016
Categories |